خاص : لبنان امام محطة مفصلية تنذر بضرب صيغته الوطنية …

يُعدّ التنوّع الطائفي والمذهبي نقطة قوّة للبنان، فثقافاته المختلفة ليست سوى مصدر لتناقح الأفكار وبلورة الأنظمة والسّياسات الفضلى لصالح هذا البلد، ما جعله غنيًا بتنوّعه. إذ قلّما نشهد مثيلاً له في العالم أجمع.
غير أنّ المشكلة ليست في الموزاييك اللّبناني النّادر والثمين بقدر ما هي مرتبطة تاريخيًا بالسّلوك والتقدير أو الرهان الخاطئ الذي سلكه قلّة من السّياسيين اللّبنانيين، ما أفضى إلى نتائج كارثيّة على المكوّنات الطائفيّة والنسيج الاجتماعي اللّبناني، وخلق مسافات شاسعة بين أطياف الوطن الواحد. وخيرُ شاهد هو بعض العقد الموروثة من زمن الحرب الأهليّة، والتي ما تزال آثارها جليّة حتّى يومنا هذا، ومنها، “النقزة”- أي الخوف- من الآخر والخشية الدّائمة من فرض هيمنته على البلد.
إذ إنّ عقدة الخوف من انتقاص حقوق طائفة لصالح أخرى؛ كانت الدّافع دومًا خلف رفع بعض الطوائف شعارات تُظهر فيها مشاعر غبنها داخل النّظام السّياسي اللّبناني، ويصل بعضها إلى حدّ رفع السّواتر وطروحات الفدرلة والتقسيم، فضلاً عن عقدة تخويف المسيحيين من المسلمين، والتي استثمرت فيها بعض الأحزاب والقوى اليمينيّة للدفع دومًا باتجاه البحث عن حليف إقليمي ودولي ليكون ضمانةً لحمايتها من شريكها في الوطن.
من المؤسف أن يمدّ فريق لبناني يده للخارج، ويقطع الأيدي الممدودة له من الداخل..! وإذا ما حاول ملاقاة الآخرين عند نقطة معيّنة يربط ذلك بتحقيق مصالح سياسيّة، ثمّ يعود إلى تموضعه السّابق. وإذا ما التقي مع مكوّن من سنخيته الطائفيّة، يكون البعد الوطني مغيبًا، ولنا في قانون الانتخابات الأرثوذكسي يوم إقراره خير مثال، أو فيما يحكى هذه الأيام عن قرب ولادة تكتل مسيحي- مسيحي في خضمّ الاستحقاق الرئاسي، وما يجري الحديث عنه من محاولات لتقارب “قواتي”- “عوني” للتوافق على اسم مرشّح موحّد لرئاسة الجمهوريّة، ما يطرح إشكاليّة معقّدة ضمن التركيبة والمعادلات والتوازنات اللّبنانيّة القائمة.
إذا كنّا لا نقلّل من شأن التقارب المسيحي- المسيحي وأهميّته، فهذا الأمر مطلوب بذاته – خصوصًا في ظلّ الأزمات التي تعصف بلبنان- فهو يريح السّاحة المسيحيّة، ويبعدها عن التشنّجات الحزبيّة الضيقة والآنية، لكن لذلك محاذير ومخاطر، عندما يتحوّل الأمر إلى عبارة عن إصطفاف مسيحي- طائفي بحت غير قائم على أسس وطنيّة. ففي مثل هذه الحال؛ ألا يمكن أن يستفزّ مثل هذا التلاقي الشّركاء المسلمين في الوطن، ويدفعهم للتكتل في المقابل؟! وحينها نكون أمام عودة اصطفافات عفى عليها الزمن ومضى- شرقيّة وغربيّة، إسلاميّة ومسيحيّة- ثمّ ما هي المصلحة اللّبنانيّة والوطنيّة بعودة مثل هذه الاصطفافات إلى السّاحة من جديد؟!..
الاصطفاف على أساس وطني، وضمن الموزاييك اللّبناني، لا غبار عليه. وهو مرحّب به ومطلوب تحت أي عنوان رئاسي حكومي نيابي وغير ذلك. لكن أن تتحوّل فئة للعمل على أساس طائفي، أو حتّى مذهبي، ففي ذلك، سلخ للنسيج وللمكوّنات اللّبنانيّة عن بعضها وتهيئة الأجواء لفتنة لا تُحمد عقباها، فضلاً عن تغذية الشّعارات التقسيميّة والفدراليّة، وذلك كلّه ليس لغةً أو منهجًا سياسيًا يخدم بناء الوطن.
صحيح أنّ الدّستور اللّبناني ينصّ على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، في مجلس النواب، لكنّها مناصفة على أساس وطني، وليس طائفيًا، وعلى أساس العيش المشترك.. وإلّا لكان البلد أصبح في مهبّ ريح الانقسامات، لو اصطف المسيحيّون في المجلس بمواجهة المسلمين أو العكس.
إذا ما تناولنا الاستحقاق الرئاسي مثلاً، فالدّستور اللّبناني واضح لجهة ما يراه في انتخاب رئيس الجمهورية استحقاقًا وطنيًا. من هذا المنطلق؛ لا يجوز أن يتحوّل إلى استحقاق طائفي، ولا بدّ من مشاركة اللّبنانيين جميعًا في الاختيار، وليس شرطًا أنّ المسيحيّين هم من يسمّون الرئيس، جتّى لو كان العرف الدّستوري يفرض أن يكون مسيحيًا مارونيًا، فمؤسسة رئاسة الجمهورية ليست مؤسسة طائفيّة وليست رئاسة مارونيّة، ممثلة للطائفة المارونيّة؛ بل هي مؤسسّة جامعة للارادة الوطنيّة والصالح العام، لها صلاحيّات بهذا المستوى الواسع والشّامل. فالرئيس، بحسب المادة 49 من الدّستور، هو رمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدّستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، ولا يصح تاليًا إدخاله في زواريب طائفيّة ومذهبيّة ضيقة، لا تليق بموقعه ومكانته الدستوريّة.
في المحصّلة؛ من يسير باتجاه تطييف الرئاسة ومذهبتها، فهو يخالف الدّستور، ليس حصرًا من بوابة صلاحيّات الرئيس؛ إنّما أيضًا من بوابة السّير في الاتّجاه المعاكس لروح الميثاق الوطني الذي جرى إقراره في الطائف، وخصوصًا بند إلغاء الطائفيّة السّياسية فيه. لذلك؛ فإنّ كلّ ما يُحكى عن تكتلات واصطفافات رئاسيّة مسيحيّة- قواتيّة وعونيّة أو كتائبيّة ليس في محلّه على الاطلاق.. فما الذي يمنع أن تُستدرج ذلك تكتلات واصطفافات إسلاميّة مناهضة إلى صدام؟
إزاء هذا الواقع، فإنّ ما يعوّل عليه اليوم هو الرّشد السّياسي، لدى بعض اللّبنانيين، لإعادة الأمور إلى نصابها الرئاسي الصّحيح بانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، بمشاركة الجميع من دون استثناء على أساس ديمقراطي ونصاب وطني، وليس طائفيًا، بعيدًا عن إدخال البلد في متاهات طائفيّة، فاللّبنانيون جميعًا بغنى عنها في ظل ما يعانونه من أزمات.